الأحد، 1 ديسمبر 2013
أخطار تهدد الإبداع الفني
إنّ أحد الاخطار التي تهدد دائماً سوسيولوجيا الفن هو تعريف جامد للحياة الاجتماعية. بمعنى أن ألفاظا كـ "بيئة" و"مؤسسة" و"بنية تحتية" يجب إبعادها إلى متحف الأثريات قياساً إلى أنها تؤدي إلى الاعتقاد بأنّ التجربة الجماعية ممكن أن تكون جامدة، ثابتة وممكن تشبيهها بمادة الفيزيائيين القدماء. إذا فهمنا بشكل أفضل كيف يمكن أن توجد علاقة دائمة، متحركة تبعا للأطر الاجتماعية، بين مجموع القوى المنخرطة في سياق الحياة الجماعية والإبداعية سوف نستوعب بشكل أفضل الواقع الوجودي للعمل الفني. أليس من الأوهام النظر إلى التعبير الفني كنشاط متخصص غريب عن واقع المشاكل الحية؟ يبدو لنا على العكس، أن كل ابداع على أي صعيد وُجد ومهما كانت الأيديولوجيات التي تبرر وجوده هو في علاقة فورية مع تلك الحرية الجماعية الدائمة الفوران التي تبث الحياة في الواقع الإنساني وتقلب البُنى حتى أكثرها شللاً وجموداً وتلقي بالمجموعات الإنسانية (التي تشكل بالنسبة لها التمثلات الجماعية والتصنيفات محرك تكامل وثبات) وفي التغيير وبكلمة شاملة التاريخ.
بالطبع هذه العلاقة ليست ظاهرة دائماً والجدير بالذكر انّ الثورات السياسية ليست دائماً فترات إبداعية جمالية بل على العكس. إلا أن تغيرات أخرى أكثر جذرية تقوم على مستويات عميقة من الحياة الجماعية تكون الدرامات السياسية فيها هي التمثل شبه الكامل لها. وهذه التغيرات البطيئة هي التي تجعل التحولات القاطعة ممكنة والتي خلالها يجري الإنسان التجارب على الخيالي.
كل شيء يجري وكأنّ الجوهر الاجتماعي، "ألماني" يفعل بشكل مزدوج ودياليكتيكياً من خلال التأمل الفني، بالوقت ذاته كتحديد فاعل وكدعوة، انتظار، حاجة للإشباع، يكون إشباعها دائماً مرجأ كتعبير لما أسماه غورفيتش الحرية البروميتونية يبحث الفن عن تفتح وانتشار للتجربة الواقعية الحية. كإحباط يملي حنيناً لا يقمع للامتلاء المستهلك على شكل مشاركة. بهذا المعنى نستطيع القول بأنّ الفن يمد في الدينامية الاجتماعية بوسائل أخرى.
نستطيع أن نستخلص ثلاث نتائج من أجل تحليل للإنسان المجابه بالإبداع الفني والمتجذر في الوجود الاجتماعي، انّ الخيال الفني يملي مشاركة مرجأة، انّه يحدس بمسافة كبيرة من التجربة الواقعية على التجربة الممكنة؛ بالنهاية انّه رهان على قدرة النوع البشري على ابتكار علاقات جديدة والإحساس بانفعالات لا تزال مجهولة.
وكمشاركة مرجأة يتنافس الخيال الفني مع جوهر الجماعات الاجتماعية ولكنه يقترح تواصلاً كاملاً، حيث تنفتح الضمائر على بعضها وحيث الاستهلاك المتبادل للجوهر الاجتماعي يكون حاداً يغنيه بلا توقف – تبادل حاد ومستمر. هذه التجمعات التي توحي بها اشارات ورموز الفن لا تقارن بأي تجمع واقعي ولهذا فهي لا تخص مطلقاً نظام الواقع الإيجابي.
هذه المشاركة هي أيضاً استباق للتجربة الواقعية للبشر. فأحياناً يؤخذ الخيالي كسلوك يؤدي إلى فراغ وأحياناً وظيفة تفرز الصور، وأحياناً لعبة. الخيالي وسلوك وجودي يحاول من خلال الرموز والاشارات، ان يمتلك أوسع تجربة ممكن أن يحسها الإنسان، وبالتالي فيما هو أبعد من الانفعالات الحاضرة انها تتطرق إلى انفعالات مستقبلية.
في خلاصة بنية الجهاز العضوي يقابل كورت غولدستان الجسم المتضرر أو المريض الذي يكف عن البحث في بقائه، بالجسم الصحيح الذي يحاول مجابهة انفعالات جديدة. إنّ الصحة هي بلا شك في البحث عن صدمات مجهولة في اتخاذ موضع خطر وذلك في تعريض النفس لزعزعات غير متوقعة. قد يكون ذلك هو الشكل الأكثر بساطة للشجاعة الإنسانية. انّه يظهر كما يقول غولدستان عندما "يبحث الإنسان عما هو أبعد من بقائه" ويضيف: "هذه الكفاءة تتوافق مع ذات الإنسان وتظهر أعلى درجة للكائن العضوي عامة" أي الحرية. ان نقل هذه الإيحاءات إلى مستوى السوسيولوجيا لا يناقض خلاصاتنا. لأنّ الإبداع الخيالي هو حدس للوجود الواقعي فهو لذلك يشكل فرضية عما هو ممكن منطلقة مما يمكن أن تكون حياة وتجربة الجماعات والأفراد.
إن رسم غريكو يستبق الرؤية الممكنة لإنسان عصره. لم يري أحد من هؤلاء الرجال – اللهب الضائعين في عالم حيث السماء ذاتها معجونة من طينة المادة نفسها. عالم بلا فراغ ينتظر بلا شك الرسم الحديث لكي يصبح مفهوماً. إنّ الرواية الفرنسية أو الروسية توحي بعدد لا يحصى من الأوضاع التي لم يسبق ذياعها فارضة سلوكات وانفعالات لم تكن حتى ذلك الوقت قد حُسَّت. انّه نيتشه الذي فتّش في نيس في المكتبات وتصفح رواية لدستوفسكي هو الذي يتحسس الصدمة الآتية والتي ستشبع وجوداتنا اليوم. ان موسيقى الجاز التي أوحت بها أفريقيا ونُقلت إلى أميركا هي التي ستعدل حساسيات ثلاثة أجيال متتابعة وأكثر كفاءة لاكتشاف تنوع الانفعالات الممكنة في عالم ذي تنوعات لا متناهية وان Mezz Mezzrow وMalcolm Lowry يستبقان الأهواء التي سيظهرها البينتك عام 1966.
إننا نرى أن عمل فنان ما هو رهان على المظاهر المستقبلية للوجود – لو كان جوهرنا معطى لنا حقيقة، هنا، على مرمى يدنا لما كنا وهذا بلا شك قصدنا إلى أبعد مما يقسرنا. ولكننا غير كافين لأنفسنا فنحتكم إلى ما هو غير موجود بعد. وأحياناً يعيد الشكل الذي نعطيه لهذا الانتظار من يتوجه إليهم هذا الانتظار. وأحياناً نبقى بلا وارث. وماذا يهم؟ انّ هذا لا نستطيع أبداً إدراكه مسبقاً. إننا ما كنّاه بقدر ما نحن ما نتخيله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المصدر:
موقع البلاغ: للكاتب جان دوفينيو. ترجمة: هُدى بركات. كتاب (سوسيولوجيا الفن).
القلق.. الجنون.. والفنون
يقولون في الأمثال الشعبية: "الجنون.. فنون".. وقد أثبت العلم وجود علاقة قوية بين الحالات الانفعالية الشديدة التي تسبب الاضطراب النفسي والتي يطلق عليها عامة الناس "الجنون" وبين الإبداع الفني الذي يظهر في صورة لوحات فنية معبرة عن العالم الداخلي للإنسان.. وأحياناً في صورة أعمال أدبية أو فنية تظهر فيها عبقرية استثنائية غير معتادة. وهنا محاولة لاستكشاف هذه العلاقة بين الإبداع الفني والانفعالات الإنسانية الداخلية.
- الإبداع حالة نفسية:
حين يبدع الإنسان فإنّه في الغالب لا يكون في حالة طبيعية من الوعي المعتاد، وحين يكون في هذه الحالة الخاصة فإن ما يعبر عنه في إبداعه الفني يكون تعبيراً عن كوامن نفسه، وانعكاساً لما في عقله الباطن وتعبيراً عن تجارب وخبرات من الماضي والحاضر، أو تطلع إلى المستقبل، كما أنّ الإبداع الفني بين وجهة النظر النفسية هو ظاهرة استثنائية يكون وراءها في العادة موهبة فطرية تؤدى إلى القدرة على الخلق والتميز، ومن ناحية أخرى فإنّ المعاناة الإنسانية والظروف والمؤثرات التي يتعرض لها الإنسان هي التي تظهر هذه الموهبة.. ومن هنا كان الارتباط بين الإبداع والحالة النفسية.
- التحليل النفسي للفنون:
تنعكس الانفعالات والمشاعر الداخلية للإنسان على أسلوبه في التعبير بالكتابة، أو الكلام، أو حين يمسك قلماً ويرسم على الورق.. فالإنسان الذي يعاني من الاكتئاب النفسي مثلاً ويرى الحياة كئيبة والدنيا كلها يأس وظلام، يتجه إلى رسم أشكال سوداء، وأشياء مشوهة ذات ألوان داكنة، بينما يمكن لنفس هذا الشخص حين يتخلص من الاكتئاب ويعود إلى حالته الطبيعية أن يرسم لوحات من الزهور وأشياء تدعو إلى البهجة والفرج ويلوّنها بألوان زاهية.. كما أنّ الإنسان في حالة القلق والخوف يعبر عن ذلك بالكلام والرسم بما يعكس ما يدور بداخله من مشاعر وأفكار.
- فنون المرضى وفنون المبدعين:
حين يقوم المرضى العقليين الذين يعانون من الهلاوس – وهي أصوات يسمعها الإنسان أو أشكال تتراءى أمامه – بالتعبير بالرسم فإن لوحاتهم تعكس العقد والصراعات في داخلهم، ويبدو فيها الغموض والحيرة وتداخل الأفكار.. ولعل الرسم هو أحد الوسائل التي يمكن للأطباء النفسيين استخدامها لمعرفة الكثير من العقد وأفكار المكبوتة داخل العقل الباطن لهؤلاء المرضى حين يتم السماح لهم بالتعبير الحر عما يريدون عن طريق الرسم، ثمّ تحليل ما يقومون بإسقاطه على الورق.
وفي الأعمال الفنية لكبار الفنانين العالميين ما يدل على الخلفية النفسية لهم من خلال العلامات والدلائل التي تحملها الأشكال والألوان التي تزخر بها اللوحات والأعمال الفنية الشهيرة، ومثال ذلك أعمال الفنان "فان خوخ" التي تأثرت بالمرض النفسي الشديد الذي كان يعاني منه حتى أنّه في نوبة من الاضطراب النفسي قام بقطع إحدى أذنيه وقدمها هدية لامرأته.
- الفن العالمي في العيادة النفسية:
هناك لوحات تعد من الأعمال الفنية العالمية الخالدة تحمل أسماء لها دلالات نفسية قوية.. مثل لوحة "المكتئب" لفان جوخ.. ولوحة "الصرخة" التي تعبر عن القلق والخوف من أعمال "مونش"، ولوحات أخرى عديدة تدل ألوانها وخطوطها وفكرتها على ما بداخل عقل صاحبها من مشاعر الحزن أو القلق أو ما أصابه من اضطراب وتداخل وتشويش. وفي الجانب الآخر هناك لوحات تبعث رؤيتها عن النظر إليها للوهلة الأولى على الارتياح. مثل لوحة الموناليزا أو "الجيو كاندا" الخالدة التي تمثل وجهاً يبتسم.. وتعطى اللوحة شعوراً لكل من يراها يحمل الإيحاء بالارتياح والتفاؤل.
- ارسم شيئاً يظهر قلقك وعقدتك:
لقد أمكن – في العيادة النفسية استخدام أسلوب الرسم في تشخيص الحالات التي تعاني من الاضطرابات النفسية.. وإظهار الكثير مما يخفيه المرضى من الصغار والكبار عن طريق السماح لهم بالتعبير عما يشعرون به في صورة رسم لوحات فنية، فحين نطلب إلى الطفل الذي يعاني من اضطراب نفسي أن يرسم صورة لرجل، أو نطلب منه أن يرسم وجه أبيه أو أمه أو معلمته في المدرسة فإنّه في هذه الحالة عادة ما يعبر عن شعوره نحو كل من هؤلاء بإبراز ملامح مرغوبة أو إظهار علامات مشوهة في أشكالهم تعبر عن وجهة نظره نحوهم التي لا تستطيع أن يعبر عنها الكلام.
عزيزي القارئ – لقد أمكن لي من خلال عملي في مجال الطب النفسي ملاحظة الكثير مما يقوم المرضى النفسيين حين يعبرون بالرسم.. فكان محتوى لوحاتهم في كل الحالات هو انعكاس لانفعالاتهم ومشاعرهم وأفكارهم.. بما يمكننا في كثير من الحالات من التوصل إلى ما يدور داخل عقولهم من هموم وأفكار لا يعبرون عنها بالكلام أثناء المقابلة والحديث مع أطبائهم.
أن جمع وتحليل نماذج من رسوم المرضى النفسيين – وهذا ما حاولت عرض البعض منها هنا – قد نتعلم منه الكثير حين نحاول عن طريق الفنون أن نغوص في أعماق النفس الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-
المصدر:
موقع البلاغ: د. لطفي الشربيني. كتاب عصر القلق. الأسباب والعلاج.
- الإبداع حالة نفسية:
- التحليل النفسي للفنون:
- فنون المرضى وفنون المبدعين:
- الفن العالمي في العيادة النفسية:
- ارسم شيئاً يظهر قلقك وعقدتك:
- المصدر:
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
الاستلهام من الأشكال المركبة في المنمنمات الإسلامية - (2)
عنوان العمل: حلم الصعود. مساحة العمل: 30 × 30 سم. الخامات والوسائط المستخدمة: ألوان مائية وجواش وأقلام باستيل على ورق. عام الإنتاج: 2008م. ا...
-
أحيانا كثيرة ترى بعض التعليقات على بعض الصور .. تكوين جميل تكوين مميز .. فماذا نعني بالتكوين .. التكوين ليس كلمة عابرة نمر ع...
-
أولاً: فن الكولاج (قص ولصق) الكولاج (من الفرنسية Coller والتي تعني لصق) فن بصري يعتمد على قص ولصق العديد من المواد معا، وبالتالي تكوين شك...