الفراغ والملاء
(حورية نهر لوه "Luo")، القرن 13، اسرة سونغ ، نسخة من الأصل للفنان جو كيزاهي
(Gu Kaizhi) (تقريبا 345-406)، حبر وألوان على الحرير، 21.7 × 52.8 سم.
متحف القصر في بكين، الصين.
يحتل فن الرسم المكانة الأهم بين جميع الفنون في الصين، ويذهب كثير من المؤرخين إلى أن الصينيين يعدون فن الرسم الفن الحقيقي الوحيد، ونظروا إلى هذا الفن بوصفه من أرفع تمظهرات عبقرية الإنسان المبدعة، وما فن الرسم لديهم الا محصلة لمفهومهم حول الحياة كذلك يعده المؤلف فرانسوا شينغ (موضوعاً صوفياً حقيقياً، والإنسان الصيني مؤمن تماماً بأن فن التصوير هو الذي يظهر سر الكون بامتياز)، ويبدو هذا الفن بالإضافة إلى الشعر تلك القمة الأخرى من قمم الثقافة الصينية من خلال الفضاء الأصلي الذي يجسده، ومن خلال النفحات الحيوية التي يثيرها يبدو أنه لا يزال الاجدر ليس على وصف مشاهد الخلق بل على المشاركة في (أفعال) الخلق نفسها، وعد فن الرسم نفسه ممارسة مقدسة خارج التيار الديني ذي التراث البوذي قبل كل شيء ثمة فلسفة أساسية هي أساس فن التصوير تطرح مفاهيم دقيقة لعلم الكون وللمصير البشري وللعلاقة بين الإنسان والكون، ويمثل الرسم طريقة خاصة للحياة بوصفه تطبيقاً لهذه الفلسفة ليس هذا الفن مجرد اطار للتمثيل، بل هو يهدف إلى خلق مكان وسط تكون الحياة فيه ممكنة ففي الصين الفن وفن الحياة يشكلان كلاً واحداً.
(جبال الثلج)، للفنان جوه تشي (Guo Xi)، حبر على ورق، القرن 11، متحف شنغهاي، الصين.
والفنان (جوه تشي) هو رسام المناظر الطبيعية، ويمثل سلالة سونغ الشمالية، والتي تصور
الجبال والأنهار والغابات في فصل الشتاء. وهذه اللوحة يظهر مشهد من واد جبلي عميق
وهادئ المكسوة بالثلوج والعديد من الأشجار القديمة تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة على
المنحدرات متهور. بل هو تحفة من قوه شي باستخدام الحبر الضوء والتكوين الرائعة في
التعبير عن رأيه تصور فني مفتوحة وعالية.
من خلال هذه الرؤية يرى الفكر الجمالي الصيني الجميل متواشجاً دوماً مع الحقيقي لذا من أجل الحكم على قيمة عمل ما تميز التقاليد ثلاث درجات من الجودة، وهي: العمل الذي هو نتاج الموهبة الكاملة والعمل الذي هو نتاج الجوهر الرائع وكدرجة أسمى هناك العمل الذي هو نتاج الروح الإلهية.
لأن المثل الأعلى الذي يحرك الفنان الصيني هو أن يحقق الكون الأصغر الحيوي الذي يعمل فيه العالم الأكبر.
عرف الفن الصيني تطوراً مستمراً على مدى التاريخ، وعلى الرغم من ارتهان هذا الفن بالأحداث فقد تبع قوانين تغيره الخاصة لم تكن هذه الفترات من التفتت والفوضى، وعلى الرغم من الانحطاطات والتساؤلات التي نجمت عنها أقل ملاءمة للإبداع الفني ثمة تياران نهضا بفن الرسم الصيني، وقد تغذى احدهما من الآخر وهما: التيار الديني الذي وسمه فن التصوير المتأثرة بالتأوية، ثم البوذية، أما التيار الثاني الدنيوي الذي لم يكن أقل روحية من التيار الأول على الرغم من كونه (دنيوياً)، وهذا التيار الأخير هو موضوع دراسة فرانسوا شينغ لكونه ممارسة عملية للفكر الجمالي الصيني.
وأنواع الحبر هي ستة أشكال للاحتراف، ويمكن التمييز بين هذه الأنواع المختلفة من الحبر (تعد ألواناً مستقلة) وهي الجاف، المخفف، الأبيض، المبلل، المركز، والأسود. وهي تنقسم وفق هذا التعبير الشهير المستوحى من البوذية: (اللون هو الفراغ، الفراغ هو اللون). يدل اللون هنا على التجلي المدغدغ للعالم الظاهراتي، وهذا التجلي معبر عنه بطريقة جيدة بحيث أن الفراغ الذي يحييه يكشف سره غير المكتنه تقنياً يترجم الفراغ بتشكيلة من التدرجات اللونية يقول فرانسوا شينغ: (عندما تعمل القوة الإلهية تبلغ الريشة - الحبر - الفراغ) إذاً هناك ريشة ما وراء الريشة وحبر ما وراء الحبر، ما على المرء إلا أن يتصرف بحسب ايقاع قلبه، وما من شيء يرسمه إلا ويكون رائعاً لأنه من عمل السماء فن الحبر ساحر، وخارق للطبيعة تقريباً)، ويورد لنا قاعدة جميلة تحكم فن الحبر: (من أجل الحصول على أثر رائع يجب اللعب بالحبر بحيث إنه في المكان الذي تقف فيه الريشة يولد شيء آخر).
لفائف جدارية بريشة ما لين (Ma Lin)، حبر وألوان على الحرير،
110.3 × 226.6 سم، 1246، متحف القصر في بكين، الصين.
الصينيون مولعون بعبارات من عيار (الإنسان المتفوق)، (الإنسان النبيل) لأن داخل الإنسان يتحول إلى تعابير الإنسان نفسها وكأن الصينيين يقسمون البشر إلى جبال وبحار؛ البعض منا (جبل) والبعض الآخر (بحر)، ويورد لنا فرانسوا شينغ اعترافات فنية لرسام صيني:
" اضحك لك والريشة (معراة) في يدي فجأة أبدأ الرقص وأنا أطلق صرخات غريبة وعندما تسمع السماء هذه الصرخات تنفتح شاسعة وفي كبد القبة السماوية يتلألأ القمر براقاً بعيداً وصغيراً، أنا أتكلم بيدي، وأنت تصغي بعينيك وهذا غير متاح للرعاع بأن يعرفوه. عندما كنت ارسم هذه اللوحة أصبحت كنهر ربيعي كلما رسمتها، ازهار النهر تفتحت انسجاما مع يدي وكانت مياه النهر تتماوج مع إيقاع كياني في الجناح الأعلى المشرف على النهر كانت اللوحة بيدي، وأنا أصرخ باسم (تزو - مي)، وعند سماع صرخاتي الممتزجة بضحكاتي اجتمعت الأمواج والغيوم فجأة ".
عموماً في الفن الصيني الإنسان هو المقصود في النهاية، الإنسان يبحث عن وحدته عبر ممارسة فن التصوير، وفي الوقت نفسه يهتم بالواقع لإن الإنسان لا يستطيع أن يكتمل إلا بإكمال فضائل السماء والأرض التي وهبت له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المصدر:
كتاب ممتع قدمه فرانسوا شينغ الأستاذ في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية. وهو مؤلف كتب هامة حول الفن والشعر في الصين منها (الكتابة الشعرية الصينية 1977)، و(النفحة - الروح عام 1989). والكتاب صادر حديثاً عن وزارة ثقافة دمشق، سلسلة أفاق ثقافية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق